فصل: ذكر عود ابنة الخليفة إلى بغداد والخطبة للسلطان ألب أرسلان ببغداد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك ألب أرسلان ختلان وهراة وصغانيان:

لما توفي طغرلبك وملك ألب أرسلان عصى عليه أمير ختلان بقلعته، ومنع الخراج، فقصده السلطان، فرأى الحصن منيعاً على شاهق، فأقام عليه وقاتله، فلم يصل منه إلى مراده.
ففي بعض الأيام باشر ألب أرسلان القتال بنفسه، وترجل، وصعد في الجبل، فتبعه الخلق، وتقدموا عليه في الموقف، وألحوا في الزحف والقتال، وكان صاحب القلعة على شرفة من سورها يحرض الناس على القتال، فأتته نشابة من العسكر فقتلته، وتسلم ألب أرسلان القلعة وصارت في جملة ممالكه.
وكان عمه فخر الملك بيغو بن ميكائيل في هراة، فعصى أيضاً عليه، وطمع في الملك لنفسه، فسار إليه ألب أرسلان في العساكر العظيمة، فحصره وضيق عليه، وأدام القتال ليلاً ونهاراً، فتسلم المدينة، وخرج عمه إليه، فأبقى عليه وأكرمه وأحسن صحبته.
وسار من هناك إلى صغانيان، وأميرها اسمه موسى، وكان قد عصى عليه، فلما قاربه ألب أرسلان صعد موسى إلى قلعة على رأس جبل شاهق، ومعه من الرجال الكماة جماعة كثيرة، فوصل السلطان إليه، وباشر الحرب لوقته، فلم ينتصف النهار حتى صعد العسكر الجبل، وملكوا القلعة قهراً، وأخذ موسى أسيراً، فأمر بقتله، فبذل في نفسه أموالاً كثيرة، فقال السلطان: ليس هذا أوان تجارة، واستولى على تلك الولاية بأسرها، وعاد إلى مرو، ثم منها إلى نيسابور.

.ذكر عود ابنة الخليفة إلى بغداد والخطبة للسلطان ألب أرسلان ببغداد:

في هذه السنة أمر السلطان ألب أرسلان السيدة ابنة الخليفة بالعود إلى بغداد، وأعلمها أنه لم يقبض على عميد الملك إلا لما اعتمده من نقلها من بغداد إلى الري بغير رضاء الخليفة، وأمر الأمير ايتكين السليماني بالمسير في خدمتها إلى بغداد، والمقام بها شحنة، وأنفذ أبا سهل محمد بن هبة الله، المعروف بابن الموفق، للمسير في الصحبة، وأمره بالمخاطبة في إقامة الخطبة له، فمات في الطريق مجدراً.
وهذا أبو سهل من رؤساء أصحاب الشافعي بنيسابور، وكان يحضر طعامه في رمضان، كل ليلة، أربع مائة متفقه، ويصلهم ليلة العيد بكسوة ودنانير تعمهم، فلما سمع بموته أرسل العميد أبا الفتح المظفر بن الحسين فمات أيضاً في الطريق، فألزم السلطان رئيس العراقين بالمسير، فوصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر، وخرج عميد الدولة ابن الوزير فخر الدولة بن جهير لتلقيهم، واقترح السلطان أن يخاطب بالولد المؤيد، فأجيب إلى ذلك، ولقب ضياء الدين عضد الدولة.
وجلس الخليفة جلوساً عاماً سابع جمادى الأولى، وشافه الرسل بتقليد ألب أرسلان للسلطنة، وسلمت الخلع بمشهد من الخلق، وأرسل إليه من الديوان لأخذ البيعة النقيب طراداً الزينبي، فوصلوا إليه وهو بنقجوان من أذربيجان، فلبس الخلع، وبايع للخليفة.

.ذكر الحرب بين ألب أرسلان وقتلمش:

سمع ألب أرسلان أن شهاب الدولة قتلمش، وهو من السلجوقية أيضاً، وهو جد الملوك أصحاب قونية، وقيصرية، وأقصرا، وملطية، يومنا هذا، قد عصى عليه، وجمع جموعاً كثيرة، وقصد الري ليستولي عليها، فجهز ألب أرسلان جيشاً عظيماً وسيرهم على المفازة إلى الري، فسبقوا قتلمش إليها.
وسار ألب أرسلان من نيسابور أول المحرم من هذه السنة، فلما وصل إلى دامغان أرسل إلى قتلمش ينكر عليه فعله، وينهاه عن ارتكاب هذا الحال، ويأمره بتركها، فإنه يرعى له القرابة والرحم، فأجاب قتلمش جواب مغتر بمن معه من الجموع، ونهب قرى الري، وأجرى الماء على وادي الملح، وهي سبخة، فتعذر سلوكها، فقال نظام الملك: قد جعلت لك من خراسان جنداً ينصرونك ولا يخذلونك، ويرمون دونك بسهام لاتخطيء، وهم العلماء والزهاد، فقد جعلتهم بالإحسان إليهم من أعظم أعوانك.
وقرب السلطان من قتلمش، فلبس الملك السلاح، وعبأ الكتائب، واصطف العسكران.
وكان قتلمش يعلم علم النجوم، فوقف ونظر، فرأى أن طالعه في ذلك اليوم قد قارنه نحوس لا يرى معها ظفراً، فقصد المحاجزة، وجعل السبخة بينه وبين ألب أرسلان ليمتنع من اللقاء. فسلك ألب أرسلان طريقاً في الماء، وخاض غمرته، وتبعه العسكر، فطلع منه سالماً هو وعسكره، فصاروا مع قتلمش واقتتلوا، فلم يثبت عسكر قتلمش لعسكر السلطان، وانهزموا لساعتهم، ومضى منهزماً إلى قلعة كردكوه، وهي من جملة حصونه ومعاقله، واستولى القتل والأسر على عسكره، فأراد السلطان قتل الأسرى، فشفع فيهم نظام الملك فعفا عنهم وأطلقهم.
ولما سكن الغبار، ونزل العسكر، وجد قتلمش ميتاً ملقى على الأرض لا يدري كيف كان موته، قيل: إنه مات من الخوف، والله أعلم، فبكى السلطان لموته، وقعد لعزائه، وعظم عليه فقده، فسلاه نظام الملك، ودخل ألب أرسلان إلى مدينة الري آخر المحرم من السنة.
ومن العجب أن قتلمش هذا كان يعلم علم النجوم، قد أتقنه، مع أنه تركي، ويعلم غيره من علوم القوم، ثم إن أولاده من بعده لم يزالوا يطلبون هذه العلوم الأولية، ويقربون أهلها، فنالهم بهذا غضاضة في دينهم، وسيرد من أخبارهم ما يعلم منه ذلك وغيره من أحوالهم.

.ذكر فتح ألب أرسلان مدينة آني وغيرها من بلاد النصرانية:

ثم سار السلطان من الري أول ربيع الأول، وسار إلى أذربيجان، فوصل إلى مرند عازماً على قتال الروم وغزوهم، فلما كان بمرند أتاه أمير من أمراء التركمان، كان يكثر غزو الروم، اسمه طغدكين، ومعه من عشيرته خلق كثيرر، قد ألفوا الجهاد، وعرفوا تلك البلاد، وحثه على قصد بلادهم، وضمن له سلوك الطريق المستقيم إليها، فسار معه، فسلك بالعساكر في مضايق تلك الأرض ومخارمها، فوصل إلى نقجوان، فأمر بعمل السفن لعبور نهر أرس، فقيل له إن سكان خويّ، وسلماس، من أذربيجان، لم يقوموا بواجب الطاعة، وإنهم قد امتنعوا ببلادهم، فسير إليهم عميد خراسان، ودعاهم إلى الطاعة، وتهددهم إن امتنعوا، فأطاعوا، وصاروا من جملة حزبه وجنده، واجتمع عليه هناك من الملوك والعساكر ما لا يحصى.
فلما فرغ من جمع العساكر والسفن سار إلى بلاد الكرج، وجعل مكانه في عسكره ولده ملكشاه، ونظام الملك وزيره، فسار ملكشاه ونظام الملك إلى قلعة فيها جمع كثير من الروم، فنزل أهلها منها، وتخطفوا من العسكر، وقتلوا منهم فئة كثيرة، فنزل نظام الملك وملكشاه، وقاتلوا من بالقلعة، وزحفوا إليهم، فقتل أمير القلعة وملكها المسلمون، وساروا منها إلى قلعة سرماري، وهي قلعة فيها في المياه الجارية والبساتين، فقاتلوها وملكوها، وأنزلوا منها أهلها، وكان بالقرب منها قلعة أخرى، ففتحها ملكشاه، وأراد تخريبها، فنهاه نظام الملك عن ذلك، وقال: هي ثغر للمسلمين، وشحنها بالرجال والذخائر والأموال والسلاح، وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان.
وسار ملكشاه ونظام الملك إلى مدينة مريم نشين، وفيها كثير من الرهبان والقسيسين وملوك النصارى وعامتهم يتقربون إلى أهل هذه البلدة، وهي مدينة حصينة، سورها من الأحجار الكبار الصلبة، المشدودة بالرصاص والحديد، وعندها نهر كبير، فأعد نظام الملك لقتالها ما يحتاج إليه من السفن وغيرها، وقاتلها، وواصل قتالها ليلاً ونهاراً، وجعل العساكر عليها يقاتلون بالنوبة، فضجر الكفار، وأخذهم الإعياء والكلال، فوصل المسلمون إلى سورها، ونصبوا عليه السلاليم، وصعد إلى أعلاه، لأن المعاول كلت عن نقبه لقوة حجره.
فلما رأى أهلها المسلمين على السور فت ذلك في أعضادهم، وسقط في أيديهم، ودخل ملكشاه البلد، ونظام الملك، وأحرقوا البيع، وخربوها، وقتلوا كثيراً من أهلها، وأسلم كثير فنجوا من القتل.
واستدعى ألب أرسلان إليه ابنه، ونظام الملك، وفرح بما يسره الله من الفتح على يد ولده، وفتح ملكشاه في طريقه عدة من القلاع والحصون، وأسر من النصارى ما لا يحصون كثرة. وساروا إلى سبيذ شهر، فجرى بين أهلها وبين المسلمين حروب شديدة استشهد فيها كثير من المسلمين، ثم إن الله تعالى يسر فتحها فملكها ألب أرسلان.
وسار منها إلى مدينة أعآل لآل، وهي حصينة، عالية الأسوار، شاهقة البنيان، وهي من جهة الشرق والغرب على جبل عال، وعلى الجبل عدة من الحصون، ومن الجانبين الآخرين نهر كبير لا يخاض، فلما رآها المسلمون علموا عجزهم عن فتحها والاستيلاء عليها، وكان ملكها من الكرج، وهكذا ما تقدم من البلاد التي ذكرنا فتحها، وعقد السلطان جسراً على النهر عريضاً، واشتد القتال، وعظم الخطب، فخرج من المدينة رجلان يستغيثان، ويطلبان الأمان، والتمسا من السلطان أن يرسل معهما طائفة من العسكر، فسير جمعاً صالحاً، فلما جاوزوا الفصيل أحاط بهم الكرج من أهل المدينة وقاتلوهم فأكثروا القتل فيهم، ولم يتمكن المسلمون من الهزيمة لضيق المسلك.
وخرج الكرج من البلد وقصدوا العسكر، واشتد القتال، وكان السلطان، ذلك الوقت، يصلي، فأتاه الصريخ، فلم يبرح حتى فرغ من صلاته، وركب، وتقدم إلى الكفار، فقاتلهم، وكبر المسلمون عليهم، فولوا منهزمين، فدخلوا البلد والمسلمون معهم، ودخلها السلطان وملكها، واعتصم جماعة من أهلها في برج من أبراج المدينة، فقاتلهم المسلمون، فأمر السلطان بإلقاء الحطب حول البرج وإحراقه، ففعل ذلك، وأحرق البرج ومن فيه، وعاد السلطان إلى خيامه، وغنم المسلمون من المدينة ما لايحد ولا يحصى.
ولما جن الليل عصفت ريح شديدة، وكان قد بقي من تلك النار التي أحرق بها البرج بقية كثيرة، فأطارتها الريح، فاحترقت المدينة بأسرها، وذلك في رجب سنة ست وخمسين، وملك السلطان قلعة حصينة كانت إلى جانب تلك المدينة، وأخذها، وسار منها إلى ناحية قرس، ومدينة آني وبالقرب منها ناحيتان يقال لهما سيل ورده، ونورة، فخرج أهلهما مذعنين بالإسلام، وخربوا البيع، وبنوا المساجد.
وسار منها إلى مدينة آني فوصل إليها فرآها مدينة حصينة، شديدة الامتناع، لا ترام، ثلاثة أرباعها على نهر أرس، والربع الآخر نهر عميق شديد الجرية، لو طرحت فيه الحجارة الكبار لدحاها وحملها، والطريق إليها على خندق عليه سور من الحجارة الصم، وهي بلدة كبيرة، عامرة، كثيرة الأهل، فيها ام يزيد على خمسمائة بيعة، فحصرها وضيق عليها، إلا أن المسلمين قد أيسوا من فتحها لما رأوا من حصانتها، فعمل السلطان برجاً من خشب، وشحنه بالمقاتلة، ونصب عليه المنجنيق، ورماه النشاب، فكشفوا الروم عن السور، وتقدم المسلمون إليه لينقبوه، فأتاهم من لطف الله ما لم يكن في حسابهم، فانهدم قطعة كبيرة من السور بغير سبب، فدخلوا المدينة وقتلوا من أهلها ما لا يحصى بحيث أن كثيراً من المسلمين عجزوا عن دخول البلد من كثرة القتلى، وأسروا نحواً مما قتلوا.
وسارت البشرى بهذه الفتوح في البلاد، فسر المسلمون، وقريء كتاب الفتح ببغداد في دار الخلافة، فبرز خط الخليفة بالثناء على ألب أرسلان والدعاء له.
ورتب فيها أميراً في عسكر جرار، وعاد عنها، وقد أرسله ملك الكرج في الهدنة، فصالحه على أداء الجزية كل سنة، فقبل ذلك.
ولما رحل السلطان عائداً قصد أصبهان، ثم سار منها إلى كرمان، فاستقبله أخوه قاروت بك بن جغري بك داود، ثم سار منها إلى مرو، فزوج ابنه ملكشاه بابنة خاقان، ملك ما وراء النهر، وزفت إليه في هذا الوقت، وزوج ابنه أرسلانشاه بابنة صاحب غزنة، واتحد البيتان: البيت السلجوقي، والبيت المحمودي، واتفقت الكلمة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، ظهر بالعراق وخوزستان وكثير من البلاد جماعة من الأكراد، خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خيماً سوداً، وسمعوا منها لطماً شديداً، وعويلاً كثيراً، وقائلاً يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم أهله عليه ويعملوا له العزاء قلع أصله، وأهلك أهله، فخرج كثير من النساء في البلاد إلى المقابر يلطمن، وينحن، وينشرن شعورهن، وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك، وكان ذلك ضحكة عظيمة.
ولقد جرى في أيامنا نحن في الموصل، وما والاها من البلاد إلى العراق، وغيرها، نحو هذا، وذلك أن الناس سنة ستمائة أصابهم وجع كثير في حلوقهم، ومات منه كثير من الناس، فظهر أن امرأة من الجن يقال لها أم عنقود، مات ابنها عنقود، وكل من لا يعمل له مأتماً أصابه هذا المرض، فكثر فعل ذلك، وكانوا يقولون: يا أم عنقود اعذرينا. قد مات عنقود ما درينا، وكان النساء يلطمن، وكذلك الأوباش.
وفيها ولي أبو الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي نابة العلويين ببغداد، وإمارة الموسم، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وكان المرتضى أبو الفتح أسامة قد استعفى من النقابة، وصاهر بني خفاجة، وانتقل معهم إلى البرية، وتوفي أسامة بمشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، في رجب سنة اثنتين وسبعين.
وفيها في جمادى الآخرة توفي أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي النحوي المتكلم، وكان له اختيار في الفقه، وكان عالماً بالنسب، ويمشي في الأسواق مكشوف الرأس، ولم يقبل من أحد شيئاً، وكان موته في جمادى الآخرة، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة، ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار.
وفيها انقض كوكب عظيم، وكثر نوره فصار أكثر من نور القمر، وسمع له دوي عظيم، ثم غاب. ثم دخلت:

.سنة سبع وخمسين وأربعمائة:

.ذكر الحرب بين بني حماد والعرب:

في هذه السنة كانت حرب بين الناصر بن علناس بن حماد ومن معه من رجال المغاربة من صنهاجة ومن زناتة ومن العرب: عدي والأثبج، وبين رياح، وزغبة، وسليم، ومع هؤلاء المعز بن زيري الزناتي، على مدينة سبتة.
وكان سببها أن حماد بن بلكين جد الناصر كان بينه وبين باديس بن المنصور من الخلف، وموت باديس محاصراً قلعة حماد، ما هو مذكور، ولولا تلك القلعة لأخذ سريعاً، وإنما امتنع هو وأولاده بها بعده، وهي من أمنع الحصون، وكذلك ما استمر بين حماد والمعز بن باديس، ودخول حماد في طاعته ما تقدم ذكره، وكذلك أيضاً ما كان بين القائد بن حماد وبين المعز، وكان القائد يضمر الغدر وخلع طاعة المعز، والعجز يمنعه من ذلك، فلما رأى القائد قوة العرب، وما نال المعز منهم، خلع الطاعة، واستبد بالبلاد، وبعده ولده محسن، وبعده ابن عمه بلكين بن محمد بن حماد، وبعده ابن عمه الناصر بن علناس بن محمد بن حماد، وكل منهم متحصن بالقلعة، وقد جعلوها دار ملكهم.
فلما رحل المعز من القيروان وصبرة إلى المهدية تمكنت العرب، ونهبت الناس، وخربت البلاد، فانتقل كثير من أهلها إلى بلاد بني حماد لكونها جبالاً وعرة يمكن الامتناع بها من العرب، فعمرت بلادهم، وكثرت أموالهم، وفي نفوسهم الضغائن والحقود من باديس، ومن بعده من أولادهم، يرثه صغير عن كبير.
وولي تميم بن المعز بعد أبيه، فاستبد كل من هو ببلد وقلعة بمكانه وتميم صابر يداري ويتجلد.
واتصل بتميم أن الناصر بن علناس يقع فيه في مجلسه ويذمه، وأنه عزم على المسير إليه ليحاصره بالمهدية. وأنه قد حالف بعض صنهاجة، وزناتة، وبني هلال ليعينوه على حصار المهدية. فلما صح ذلك عند أرسل إلى أمراء بني رياح، فأحضرهم إليه وقال: أنتم تعلمون أن المهدية حصن منيع، أكثره في البحر، لا يقاتل منه في البر غير أربعة أبراج يحميها أربعون رجلاً، وإنما جمع الناصر هذه العساكر إليكم. فقالوا له: الذي تقول حق، ونحب منك المعونة، فأعطاهم المال، والسلاح من الرماح والسيوف والدروع والدرق، فجمعوا قومهم، وتحالفوا، واتفقوا على لقاء الناصر.
وأرسلوا إلى من مع الناصر من بني هلال يقبحون عندهم مساعدتهم للناصر ويخوفونهم منه إن قوي، وأنه يهلكهم بمن معه من زناتة وصنهاجة، وأنهم إنما يستمر لهم المقام، والاستيلاء على البلاد، إذا تم الخلف وضعف السلطان. فأجابهم بنو هلال إلى الموافقة، وقالوا: اجعلوا أول حملة تحملونها علينا، فنحن ننهزم بالناس، ونعود عليهم، ويكون لنا ثلث الغنيمة. فأجابوهم إلى ذلك، واستقر الأمر.
وأرسل المعز بن زيري الزناتي إلى من مع الناصر من زناتة بنحو ذلك، فوعدوه أيضاً أن ينهزموا، فحينئذ رحلت رياح وزناتة جميعها، وسار إليهم الناصر بصنهاجة، وزناتة، وبني هلال، فالتقت العساكر بمدينة سبتة، فحملت رياح على بني هلال، وحمل المعز على زناتة، فانهزمت الطائفتان، وتبعهم عساكر الناصر منهزمين، ووقع فيهم القتل، فقتل فيمن قتل القاسم بن علناس، أخو الناصر في نفر يسير، وغنمت العرب جميع ما كان في العسكر من مال وسلاح ودواب وغير ذلك، فاقتسموها على ما استقر بينهم، وبهذه الوقعة تم للعرب ملك البلاد، فإنهم قدموها في ضيق وفقر وقلة دواب فاستغنوا، وكثرت دوابهم وسلاحهم، وقل المحامي عن البلاد، وأرسلوا الألوية والطبول وخيم الناصر بدوابها إلى تميم، فردها وقال: يقبح بي أن آخذ سلب ابن عمي! فأرضى العرب بذلك.

.ذكر بناء مدينة بجاية:

لما كانت هذه الوقعة بين بني حماد والعرب، وقويت العرب، اهتم تميم بن المعز لذلك، وأصابه حزن شديد، فبلغ ذلك الناصر، وكان له وزير اسمه أبو بكر بن أبي الفتوح، وكان رجلاً جيداً يحب الاتفاق بينهم، ويهوي دولة تميم، فقال للناصر: ألم أشر عليك أن لا تقصد ابن عمك، وأن تتفقا على العرب، فإنكما لو اتفقتما لأخرجتما العرب.
فقال الناصر: لقد صدقت، ولكن لا مرد لما قدر، فأصلح ذات بيننا. فأرسل الوزير رسولاً من عنده إلى تميم يعتذر، ويرغب في الإصلاح، فقبل تميم قوله، وأراد أن يرسل رسولاً إلى الناصر، فاستشار أصحابه، فاجتمع رأيهم على محمد بن البعبع، وقالوا له: هذا رجل غريب، وقد أحسنت إليه، وحصل له منك الأموال والأملاك. فأحضره، وأعطاه مالاً ودواب وعبيداً وأرسله، فسار مع الرسول حتى وصل إلى بجاية، وكانت حينئذ منزلاً فيه رعية من البربر، فنظر إليها محمد بن البعبع، وقال في نفسه: إن هذا المكان يصلح أن يكون به مرسى ومدينة، وسار حتى وصل إلى الناصر، فلما أوصل الكتاب وأدى الرسالة قال للناصر: معي وصية إليك، وأحب أن تخلي المجلس، فقال الناصر: أنا لا أخفي عن وزيري شيئاً. فقال: بهذا أمرني الأمير تميم، فقام الوزير أبو بكر وانصرف، فلما خرج قال الرسول: يا مولاي إن الوزير مخامر عليك، هواه مع الأمير تميم، لا يخفي عنه من أمورك شيئاً، وتميم مشغول مع عبيده قد استبد بهم، واطرح صنهاجة وغير هؤلاء، ولو وصلت بعسكرك ما بت إلا فيها لبغض الجند والرعية لتميم، وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها. وذكر له عمارة بجاية، وأشار عليه أن يتخذها دار ملك، ويقرب من بلاد إفريقية، وقال له: أنا أنتقل إليك بأهلي، وأدبر دولتك، فأجابه الناصر إلى ذلك، وارتاب بوزيره، وسار مع الرسول إلى بجاية، وترك الوزير بالقلعة.
فلما وصل الناصر والرسول إلى بجاية أراه موضع الميناء والبلد والدار السلطانية، وغير ذلك، فأمر الناصر من ساعته بالبناء والعمل، وسر بذلك، وشكره، وعاهده على وزارته إذا عاد إليه، ورجعا إلى القلعة، فقال الناصر لوزيره: إن هذا الرسول محب لنا، وقد أشار ببناء بجاية، ويريد الانتقال إلينا، فاكتب له جواب كتبه، ففعل.
وسار الرسول، وقد ارتاب به تميم، حيث تجدد بناء بجاية عقيب مسيره إليهم، وحضوره مع الناصر فيها، وكان الرسول قد طلب من الناصر أن يرسل معه بعض ثقاته ليشاهد الأخبار ويعود بها، فأرسل معه رسولاً يثق به، فكتب معه: إنني لما اجتمعت بتميم لم يسألني عن شيء قبل سؤاله عن بناء بجاية، وقد عظم أمرها عليه، واتهمني، فانظر إلى من تثق به من العرب ترسلهم إلى موضع كذا، فإني سائر إليهم مسرعاً، وقد أخذت عهود زويلة وغيرها على طاعتك. وسير الكتاب، فلما قرأه الناصر سلمه إلى الوزير، فاستحسن الوزير ذلك، وشكره وأثنى عليه، وقال: لقد نصح وبالغ في الخدمة، فلا تؤخر عنه إنفاذ العرب ليحضر معهم.
ومضى الوزير إلى داره، وكتب نسخة الكتاب، وأرسل الكتاب بخط الرسول إلى تميم، وكتاباً منه يذكر له الحال من أوله إلى آخره. فلما وقف تميم على الكتاب عجب من ذلك، وبقي يتوقع له سبباً يأخذه به، إلا أنه جعل عليه من يحرسه في الليل والنهار من حيث لا يشعر، فأتى بعض أولئك الحرس إلى تميم، وأخبره أن الرسول صنع طعاماً، وأحضر عنده الشريف الفهري، وكان هذا الشريف من رجال تميم وخواصه، فأحضره تميم، فقال: كنت واصلاً إليك، وحدثه أن ابن البعبع الرسول دعاني، فلما حضرت عنده قال: أنا في ذمامك، أحب أن تعرفني مع من أخرج من المهدية، فمنعته من ذلك وهو خائف، فأوقفه تميم على الكتاب الذي بخطه، وأمره بإحضاره، فأحضره الشريف.
فلما وصل إلى باب السلطان لقيه رجل بكتاب العرب الذين سيرهم الناصر، ومعهم كتاب الناصر إليه يأمره بالحضور عنده، فأخذ الكتاب وخرج الأمير تميم، فلما رآه ابن البعبع سقطت الكتب منه، فإذا عنوان أحدها: من الناصر بن علناس إلى فلان، فقال له تميم: من أين هذه الكتب؟ فسكت، فأخذها وقرأها، فقال الرسول ابن البعبع: العفو يا مولانا! فقال: لا عفا الله عنك! وأمر به فقتل وغرقت جثته.

.ذكر ملك ألب أرسلان جند وصيران:

في هذه السنة عبر ألب أرسلان جيحون، وسار إلى جند وصيران، وهما عند بخارى، وقبر جده سلجوق بجند، فلما عبر النهر استقبله ملك جند وأطاعه، وأهدى له هدايا جليلة، فلم يغير ألب أرسلان عليه شيئاً، وأقره على ما بيده، وعاد عنه بعد أن أحسن إليه وأكرمه، ووصل إلى كركانج خوارزم، وسار منها إلى مرو.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ابتديء بعمارة المدرسة النظامية ببغداد.
وفيها انقض كوكب عظيم، وصار له شعاع كثير أكثر من شعاع القمر، وسمع له صوت مفزع.
وفيها توفي محمد بن أحمد أبو الحسين بن الآبنوسي، روى عن الدارقطني وغيره. ثم دخلت:

.سنة ثمان وخمسين وأربعمائة:

.ذكر عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه:

في هذه السنة سار ألب أرسلان من مرو إلى رايكان، فنزل بظاهرها، ومعه جماعة أمراء دولته، فأخذ عليهم العهود والمواثيق لولده ملكشاه بأنه السلطان بعده، وأركبه، ومشى بين يديه يحمل الغاشية.
وخلع السلطان على جميع الأمراء، وأمرهم بالخطبة له في جميع البلاد التي يحكم عليها، ففعل ذلك، وأقطع البلاد، فأقطع مازندران للأمير إينانج بيغو، وبلخ لأخيه سليمان بن دواد جغري بك، وخوارزم لأخيه أرسلان أرغو، ومرو لابنه الآخر أرسلان شاه، وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس، وولاية بغشور ونواحيها لمسعود بن أرتاش، وهو من أقارب السلطان، وولاية أسفرار لمودود بن أرتاش.